الاقتصاد الجديد

كانت أجهزة الكمبيوتر الشخصية وشبكة الإنترنت بمثابة اعمدة بناء الاقتصاد الجديد الذي تشكل في التسعينات من القرن الماضي وكانت حينها الجهود منصبة على إمكانية استغلال التكنولوجيا في إيجاد أسواق عالمية كخطوة راسخة نحو إنتاجا وتوزيعا أعلى كفاءة لينعكس على تدفقات مالية تكون في آجلها ذات طبيعة مستدامه بغية سحب المستثمرين . في بادئ الأمر، لم يؤد اعتماد تكنولوجيا الكمبيوتر من قبل الشركات إلى تحقيق زيادة ذات شأن في الإنتاجية الاقتصادية الأميركية، مما حير صانعي السياسة الحكوميين. ولكن في نهاية التسعينات من القرن العشرين، بدأت الإنتاجية بالازدياد مما أعطى أملاً ببروز فترة جديدة دائمة من النمو الاقتصادي بالنسبة لمعظم الأميركيين.
قام شعور التفاؤل بشكل أساسي على الأرباح المدهشة التي حققتها شركات التكنولوجيا في أسواق البورصة الأميركية، خاصة الشركات الجديدة المرتبطة بالتجارة على الإنترنت. دفع المستثمرون الأميركيون والأجانب بالمال على شركات الإنترنت غير المختبرة في نهاية التسعينات من القرن العشرين بحثاً عما سماه مايكل لويس "الشيء الجديد، الجديد."

قد يقرر أصحاب المشاريع الخاصة  Special Projects الذين يلاحظون وجود مكان مناسب لاستراتيجية برمجيات او منتجات جديدة تأسيس شركة لتلبية الطلب وقد يضعون التكاليف الأولية على بطاقاتهم الائتمانية الشخصية ويطلبون من الأصدقاء وأفراد العائلة تقديم المساعدة. ومن خلال الصلات الصحيحة، مثل شهادة من جامعة أميركية رائدة، يمكن ان يحصل أصحاب المشاريع الشخصية على اجتماع مع بعض من مجموعة "الرأسماليين المغامرين". حقق هؤلاء المستثمرون ثروات طائلة من نجاحات سابقة في أسواق التكنولوجيا وهم يبحثون عن إمكانيات جديدة. فإذا كانت فكرة صاحب مشروع ذات جدوى فسيكونهناك استثمار بالملايين من الدولارات في تمويله مقابل جزء من ملكية الشركة او المشروع. وإذا استمرت الأمور بصورة متفائله يتم إطلاق الشركة وتعطى اسما وهويه، وفي حال حققت نجاحاً مبكراً يمكن ان يتمكن صاحب المشروع والداعمون الماليون من جعلها "شركة عامة فيتم بيع أسهمها إلى العامه في سوق البورصة عبر طرح أسهمها للتداول.

لقد ساعدت معدلات الفائدة المنخفضة الشركات الجديدة في تحقيق التقدم خلقت قصص النجاح الرائعة، مثل بروز شركات مايكروسوفت، أبل، أميركا أون لاين، ولاحقاً إي باي، ياهو، وغيرها من شركات الدوت كوم مزاجاً متفائلاً بين المستثمرين الذين بدوا مستعدين للرهان على أية استراتيجية معقولة "للتجارة الإلكترونية" مهما كانت تعتمد على الحظ.

جاءت تحذيرات رئيس مجلس إدارة الاحتياط الفدرالي السابق آلان غرينسبان من "الحماسة غير المنطقية"، ولكن هذا التحذير لم يخفف فقاعة سوق بورصة شركات الدوت كوم. في مارس 2000، وحلّق حينها مؤشر نازداك، الذي هو مقياس لسوق الأسهم الأميركية المتخصصة في إدراجات أسهم التكنولوجيا، ووصل إلى أعلى من 5,000، أي ضعفي مستواه في السنة السابقة. أحد النماذج الجديدة من الشركات التكنولوجية الجديدة كانت تدعى بيتس دوت كوم، التي قدمت أسعاراً منخفضة إلى المستهلكين الذين يشترون طعام حيواناتهم الأليفة على الإنترنت، آملة في أن تؤدي الأعداد المتزايدة التي يقوم بها المستهلكون لموقعها على شبكة الإنترنت إلى اجتذاب المعلنين الذين يدفعون ثمن إعلاناتهم.

 

شكل ازدهار شركات الدوت كوم تعبيراً انتهازياً مميزا للتفاؤل والسذاجة الاقتصادية الأميركية. لم يكن افتتان الأميركيين باحتمال الكسب المفاجئ في سوق البورصة ظاهرة جديدة. فقد اعتمد الآباء المؤسسون على اليانصيب لجمع المال للجيش القاري، واليوم يراهن الأميركيون بأكثر من 50 بليون دولار شهرياً في العاب اليانصيب التي تديرها الولايات وتساعد عائداتها في تمويل التعليم والبرامج الأخرى. هوس الاستثمار هذا كان موجودا في كل جيل، بدءاً بالمضاربة بالأراضي القارية، ومروراً بالسكك الحديدية في القرن التاسع عشر، والتكنولوجيا البيولوجية والكمبيوتر في أواخر القرن العشرين.
لقد انفجرت في مارس 2000  فقاعة الإنترنت والسبب المباشر لا زال محل جدل محتدم رغم ان معدلات الفائدة المرتفعة وتراجع كبريات الشركات عن الاستثمار في التكنولوجيا كانت ذات مردود سلبي للمناخ الاستثماري وادى تذبذب ثقة المستثمرين لضربة قوية من جراء التحقيقات التي أظهرت أن بعض خبراء السندات البارزين في وول ستريت قد ضللوا المستثمرين بشأن احتمالات الربح لبعض أسهم الإنترنت. وبهذا السبب انخفض مؤشر نازداك إلى حوالي 1000 نقطة في العام 2002، مما كان له ردة فعل عكسيه لخسارة اجماليه تعدت 5 تريليون دولار من الأرباح "الورقية" للمستثمرين. انخفضت قيمة سهم شركة بتس دوت كوم (
Pets.com) من 11 دولارا للسهم في فبراير 2000 إلى 0.19 دولار (19 سنتا فقط) في اليوم الذي أغلقت فيه الشركة أبوابها في نهاية تلك السنة.

وقعت ضحية هذا السقوط شركتان من أنجح الشركات التي كانت في الذروة في ذاك الحين منها وورلدكوم، التي استخدمت استراتيجية شراء جريئة ممولة بإصدارات أسهم لاحتلال دور طليعي في سوق الاتصالات، واستحوذت على منافسين لها مثل أم سي آي. أما الرديفه الأخرى فهي شركة إنرون، التي كانت كانت في الأصل شركة تقدم خدمات الغاز الطبيعي والكهرباء، وأصبحت لاحقاً تتاجر على الإنترنت بخدمات وسلع الطاقة. قادت تحريات الحكومة إلى محاكمة وإدانة مسؤولين كبار في الشركتين للاحتيال على المستثمرين عبر إصدار معلومات مالية خاطئة.

تبعت ضربة سوق الإنترنت موجة عارمة أخرى من الاستثمار المضارب في سوق العقارات الأميركية وفي سوق رهونات المنازل. تملك نسبة الثلثين من العائلات الأميركية منازلها الخاصة والتي تُشكِّل أهم استثماراتها، وتمتص ثلث نفقاتها، وتوفر ما معدله 75,000 دولار من ممتلكات كل صاحب منزل، مما يُشكِّل سنداً مهماً لهؤلاء عند التقاعد. شكلت ملكية المنازل جزءاً حيوياً من الحلم الأميركي بتشجيع من القادة الحكوميين عبر كل الطيف السياسي.

شجعت معدلات الفائدة المنخفضة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حصول اندفاعة قوية في الإقراض لدى المصارف وشركات الرهونات غير المصرفية وفي الاقتراض لدى من يريدون شراء المنازل. حثت الحكومة الأميركية المصارف على توفير المزيد من الرهونات إلى العائلات المتدنية الدخل مما أدى إلى زيادة المخاطر المالية بالنسبة للدائنين والمقترضين. كانت الرهونات المباعة إلى هذه الأسر من ذوي الدخل الأدنى من المعدل أو التي لها تاريخ مالي مهتز تعد رهونات بمعدلات فائدة أقل من سعر الحسم (مقارنة بالقروض المعيارية أو القروض المقدمة بسعر الحسم إلى الأسر ذات المركز المالي المتوسط أو أعلى). في ربع القرن الذي سبق عام 2007، ارتفعت ديون الأُسر الأميركية بما في ذلك الرهونات من 45 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي إلى 98 بالمئة.
لكن الحكومة الأميركية لم تتخذ الإجراءات الحازمة لتنظيم الاندفاعة القوية في قروض الرهونات التي تبعت ذلك ولم يتحرك المنظمون لكبح أساليب البيع العشوائيه التي اتبعها المقرضون مما أوقع مشتري العقارات السكنيه البسطاء في اشكالية قروض لا يتحملها المواطن العادي وكتطور خطير اضحت هذه القروض السكنية تباع من جانب الوسطاء الماليين المقيدين بجشع الإستحصال من مكافآت القومسيون الناتجة من عمليات البيع وهكذا كان على الأسر الأميركية المنخفضة الدخل شراء منازل تُجهد وضعهم المالي إلى اقصى حد. كانت معدلات الفائدة "المغرية" المنخفضة في أحيان كثيرة تقدم للعام الأول من الرهن كتسهيلات للدخول الي شراك الرهن بما تحويه العمليات من تمويه في المعدلات تعود وترتفع بدرجة دراماتيكية في السنوات اللاحقة. أظهرت الدراسات لاحقاً أن العديد من مشتري المنازل الجدد لم يفهموا المخاطر المالية التي كانوا يتخذونها.

سعت صناعة الرهونات إلى إدارة هذه المخاطر عبر عملية تدعى "التسنيد" [تحويل القروض إلى سندات مالية]. وفي هذه العملية تم دمج القروض الأعلى خطورة مع القروض السكنية التقليدية في مجموعات ومن ثم تقسيمها إلى وحدات تباع إلى المستثمرين مثل السندات. كانت هذه السندات المدعومة برهونات عقارية تدفع فائدة أعلى من الفائدة المعتمدة لأنها تنطوي على مخاطر أعلى بطريقه تنقصها الأمان، وكان المستثمرون في الولايات المتحدة، ولاحقاً حول العالم، يلتقطونها بسرعة وحماسة. فعلى سبيل المثال، تخطت مبيعات السندات المدعومة برهونات عقارية التريليون دولار في العام 2005. طور المهندسون الماليون في وول ستريت سلسلة من الاستثمارات المضاربة الأكثر تعقيداً المرتبطة بالسندات المدعومة بالرهونات. ولاقت هذه أيضاً مبيعات جيدة لدى المستثمرين وأسفرت النتيجة عن توسع عالمي حاد للاستثمارات المضاربة الممولة بكثافة بالدين.

وقد ازدهرت مبيعات المساكن في الولايات المتحدة و بريطانيا وإسبانيا ودول أخرى بسبب ارتفع المبيعات وعندما انهارت سوق المساكن المتخمة في الولايات المتحدة وجد العديد من أصحاب المنازل تحت وطأة الديون بالمال مقابل رهنهم البالغ اكثر مما يستحق منزلهم. انقضت فترات معدلات الفائدة المغرية، وواجه المقترضون دفع أقساط شهرية أعلى بكثير، وأعلى مما يستطيعون تحمله في حالات عديدة. فعندما كانت تبدو أسعار المنازل وكأنها ستستمر بالارتفاع من دون حدود، كان المقترضون يتحملون طوعياً هذه الديون، وهم كانوا واثقين بسبب اعتقادهم بانه يمكنهم دائماً بيع المنزل وتحقيق ربح أو الحصول على إعادة تمويل مقابل زيادة قيمة المنزل. لكن عندما بدأت أسعار المنازل بالانخفاض، انكشفت هذه الحسابات مثلها مثل الخسارة في المقامرات.

وقد تمّ جمع ديون الرهونات الفردية وحزمها في سندات متزايدة يلفها الغموض وتم بيعها في مناطق متفرقه من أنحاء العالم، مما أدّى إلى جعل أزمة الرهونات ازمه عالميهً. وكانت النتيجة ضخ الأموال من الدول الكبرى والصناعيه ذات ريادة امريكيه واوروبيه بالإضافه الي الدول الآسيوية الكبرى ما مجموعه تريليونات الدولارات لإنقاذ المصارف وصناديق الاستثمار العرجاء. وازدادت مخاوف المقرضون عن تقديم القروض حتى القصيرة الأمد تلك القروض المرتبطة بعمق بالأعمال اليومية للاقتصاد العالمي. وأصبحت خزانات الحكومة والمصارف المركزية الملجأ الاخير للاقراض على نطاق هائل، فتصب دولارات الضرائب في قطاع مالي متصدع، ومن ثم تسيطر بصورة مباشرة او تحصل على أسهم ملكية كبيرة في المصارف والصناديق، وذلك فيما مثل مسارا مذهلا عكس عقودا من إزالة الأنظمة والاعتماد على السوق الحرة.

يرى الخبراء ان الانعطاف المدمر للأحداث هي سلسله زمنيهً في التسلسل التاريخي الاقتصادي الأميركي وهي دورات تسمى "فورات الازدهار والانتكاس الاقتصادي " وتلعب دوراً بارزاً عبر التاريخ الأميركي. في القرن التاسع عشر، استفادت الولايات المتحدة من فورة الازدهار الأمنية، فورة ازدهار السكك الحديدية، فورة ازدهار المعادن وفورة الازدهار المالي. وشهد القرن العشرون فورة ازدهار مالية أخرى، فورة في سوق البورصة، فورة ما بعد الحرب وفورة في سوق شركات الدوت كوم.

وقال غرامليش: "التفاصيل تختلف، لكن تتميز كل واحدة من هذه الحالات باكتشافات واختراقات أولية، وتبنيها على نطاق واسع، واستثمار واسع النطاق، ثم انهيار عندما لا تتمكن الأسعار من اللحاق بهذه الموجة ويخسر العديد من المستثمرين الكثير من المال." وأضاف: و"عندما ينقشع الغبار تحدث مجزرة مالية كمحصله .

لقد وصلت تأثيرات الأزمة المالية التي حصلت عام 2008 إلى ضربات موجعة مسدده الي الشركات العملاقه وبعد ذلك صاحبتها اصوات عاليه إلى الحكومات مطالبة إياها بإجراء تنظيم أوثق لأسواق الإقراض والأوراق المالية، وكشف المخاطر الاستثمارية بطريقة مسؤولة أكثر بكثير. وقد ألّح القادة في انحاء المعمورة ان تكون الرقابة على القطاعين المصرفي والمالي الأميركي وغيره مسؤولية العولمه. من المستحيل الآن تحديد كيف ستحل الولايات المتحدة والدول الأخرى هذه المسائل. لكن التاريخ الأميركي يروي جدلاً مستمراً حول التنظيم. يجب على الاميركيين اليوم وغداً أن يحددوا كيف يقومون على افضل وجه بموازنة الديناميكية والتنظيم، النمو والأمان، الابتكار والاستقرار في آن واحد.